بسم الله الرحمن الرحيم قبل ان نبدأ في سرد فضل صيام شهر شعبان
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أمَّا بعد:
فإنَّ من حكمة الله تعالى التَّامة أنْ فاوَت في الثواب بين العبادات، وبَايَنَ بينها في الأجور، حيث أخبرنا بثواب بعضها والجزاء الذي رتَّبه عليها، واستأثر بثواب البعض الآخر، ومن ذلك أنه أخفى عنَّا جزاء القيام بها؛ وما ذلك إلَّا لعظيم شأن تلك العبادات وكبير قَدْرها عند مشرِّعها جلَّ وعلا.
ومن بين تلك العبادات التي أخفى عنَّا ثوابها: الصيام.
فعن أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله عز وجل يقول: إنَّ الصوم لي وأنا أَجْزي به…»([1]) الحديث، ولهذا وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بهذه العبادة وكرَّر عليه ذلك؛ مما يدل على تأكدها وفضلها.
فعن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: قلتُ: يا رسول الله، مُرْني بعمل، قال: «عليكَ بالصوم؛ فإنه لا عِدْل له»، قلتُ: يا رسول الله، مُرْني بعمل، قال: «عليكَ بالصوم؛ فإنه لا عِدْل له»([2]).
وإنَّ ممَّا يُبرز فضل هذه العبادة: تعدد النصوص بالندب إلى صيام أيام معيَّنة من الأسبوع، وأخرى محدَّدة من الشهور، وثالثة مقيَّدة بأشهر من السَّنة.
ومن أشهُر السَّنة التي جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحض على صيامها قولاً وفعلاً: صيام شهر شعبان، وبيان هذا في النص الآتي:
عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أَرَكَ تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم»([3]).
ولقد كان من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم المسارعة إلى الخيرات بشتى السُّبل المشروعة لاغتنام شهر شعبان بمزيدٍ من عبادة الصيام، ولَمَّا لوحظ إكثاره صلى الله عليه وسلم من ذلك استشكل بعض الصحابة هذا الصنيع، فاستفتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم أنَّ إكثاره من الصيام في هذا الشهر لمعنيين:
أحدهما: غفلة الناس عن المشروع في هذا الشهر من الصيام؛ وذلك لأنه اكتنفه شهران عظيمان هما: شهر حرام وهو رجب، وشهر الصيام وهو رمضان، فاشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولاً عنه.
الثاني: أنَّ أعمال العباد تُرفع في هذا الشهر إلى الله تعالى([4]).
فكانت فتواه صلى الله عليه وسلم في غاية البيان، حيث جمعت بين رفع الإشكال المسؤول عنه، وبين الحث على صيام غالب هذا الشهر والحرص عليه.
ومن تأمل هذا الحديث وقف على فوائد جليلة في نواحٍ متنوعة:
1- حرص الصحابة على السؤال عمَّا كانوا يستشكلونه من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
وهذا السؤال منهم ناشئ عن شدة اتِّباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على اقتفاء أثره في كل شيء، وعلى التفقه في أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ومعرفة ما ورد عنه من معاني حديثه صلى الله عليه وسلم، والجِد في إدراك مراده -عليه الصلاة والسلام-، وطلب رفع الإشكال فيما وقعت فيه الشبهة عندهم، فكان صلى الله عليه وسلم يُقرُّهم على صنيعهم، ويتلقَّى استفتاءاتهم دون أدنى تذمر، ويجيب عن أسئلتهم دون أي تضجر منهم، أو تعنيف لهم أو غضب عليهم؛ بل كان يثني على سؤالاتهم، ويشيد بها، ويظهر لهم إعجابه بها، فمرة يقول لمن سأله: «لقد سألتَ عن عظيم»([5])، ومرة يقول لمن سأله: «لقد وُفِّق، أو لقد هُدِي»([6])، ونحو ذلك مما كان صلى الله عليه وسلم يتعامل به مع أسئلة أصحابه؛ لأنهم كانوا يسألون عمَّا ينفعهم ويحتاجون إليه من أمور دينهم.
وهكذا ينبغي للمسلم الاقتداء بالصحابة y فيحرص على السؤال عمَّا يفيده ويحتاج إليه ويعود عليه وعلى غيره بالفائدة.
2- استحباب الإكثار من صيام شهر شعبان، والنصوص في هذا عديدة:
منها: ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلَّا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان»([7]).
وفي رواية: «كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يَصِلُه برمضان»([8]).
وفي رواية: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشهر أكثر صياماً منه لشعبان، كان يصومه أو عامَّته([9])»([10]).
3- عمق إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، وحُسْن تعليمه، وذلك ببيان الحكم مقروناً بذِكْر علَّته.
4- فيه بيان حكمة إكثار الصيام في شهر شعبان، وتقدَّم توضيحه وأنَّ ذلك مرده لمعنيين، ويضاف حكمة أخرى وهي: أنَّ صيام شهر شعبان كالتمرين على صيام شهر رمضان؛ “لئلا يدخل [المرء] في صوم رمضان على مشقة وكُلْفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذَّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط”([11]).
5- فيه إشارة إلى بُطلان ما عليه كثير من الناس من تخصيص شهر رجب بالصيام، وهذا ظاهر، فإنَّ السُّنة جاءت بتخصيص شهر شعبان، وأمَّا رجب فشأنه في هذا شأن سائر الشهور، ونحو هذا أيضاً: ما يَعْمَد إليه بعض الناس من تخصيص ليلة النصف من شهر شعبان بصدقة أو قيام أو يوم النصف منه بصيام أو إظهار زينة وغيره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “فأمَّا صوم يوم النصف مفرداً فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسماً تُصنع فيه الأطعمة، وتُظهَر فيه الزينة هو من المواسم المحدَثَة المبتدَعة التي لا أصل لها”([12]).
6- إثبات رفع الأعمال -أعمال العباد- في شهر شعبان، وهذا رفع لعمل العام كما بيَّن ذلك صلى الله عليه وسلم، فحريٌّ بالموفَّق أن يحرص على سُنَّةِ صيام هذا الشهر، وإحيائها في الناس، ودلالتهم عليها، فإنَّ الدال على الخير كفاعله، مع ماله من فضل عظيم في رفع عمله إلى رب العالمين وهو صائم.
7- إثبات صفة العلو لله -جلَّ وعلا-؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تُرفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين»، وهذا كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وهذا أَمْر أشهر من أن تُذكر أدلته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “قد وصف الله تعالى نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفَوْقيَّة في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أنَّ الله تعالى عالٍ على الخَلْق، وأنه فوق عباده”([13]).
8- أنَّ التخصيص لا يُصار إليه إلَّا بدليل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجه ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه الإكثار من صيام شهر إلَّا شعبان، فدل على أنه مقصود، ولو كان غيره مشروعاً لندب إليه بقوله أو فعله؛ لأنَّ مقتضى ذلك كان قائماً، فلمَّا أعرض عنه دل على عدم مشروعية الإكثار من الصيام في شهرٍ غيره.
ويستثنى من ذلك شهر الله المحرَّم، فإنَّ النص القولي عنه صلى الله عليه وسلم جاء بالندب إلى صيامه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم منبِّهاً إلى هذه القضية -أعني أنَّ التخصيص لا يُصار إليه إلَّا بدليل-: «لا تختصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخُصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلَّا أن يكون في صوم يصومه أحدكم»([14]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “فلفظ النهي عن الاختصاص لوقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص، فإذا كان يوم الجمعة يوماً فاضلاً يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة ما لا يستحب في غيره كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره، ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التخصيص دفعاً لهذه المفسدة، التي لا تنشأ إلَّا من التخصيص”([15]).
9- الحرص على الاستزادة من العبادة في وقت الغفلة.
قال ابن رجب -رحمه الله-: “وفيه -أي: حديث أسامة- دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأنَّ ذلك محبوب لله عز وجل”([16]).
وخاصة عند نزول ما يشغل الناس عن الخير ويصرفهم عنه كالفتن والحروب ونحو ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ»([17]).
قال ابن رجب -رحمه الله-: “وسبب ذلك أنَّ الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دِين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينه، ويعبد ربَّه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، متَّبعاً لأوامره، مجتنباً لنواهيه”([18]).
وكل هذا دال على أنَّ العبادة في أوقات الغفلة أمرها آكد، وشأنها أعظم، وفضلها أكبر.
ومن هذه الأوقات -كما تقدَّم- اغتنام شهر شعبان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الإكثار من صيامه، فيفوز من وفَّقه الله لذلك باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته في فِعْله، ويظفر بالعمل بما يحبه صلى الله عليه وسلم، مع ماله من الخيرات التي تقدَّم بيانها، والبشائر التي سبق إيضاحها..
هذا وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
إقرأ أيضا :
15 آداب تلاوة القرآن وبدع الناس فيه
([1]) رواه مسلم (1151).
([2]) رواه النسائي (2223)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (986).
([3]) رواه النسائي (2357)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1022).
([4]) انظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص250)، عمدة القاري للعيني (11/83).
([5]) رواه أحمد (22016)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (739).
([6]) رواه مسلم (13).
([7]) رواه البخاري (1969)، ومسلم (1156) واللفظ له.
([8]) رواه أبو داود (2431)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1024).
([9]) أي: أغلبه.
([10]) رواه النسائي (2354)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1024).
([11]) لطائف المعارف لابن رجب (ص258).
([12]) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/138).
([13]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/121).
([14]) رواه مسلم (1144).
([15]) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/113).
([16]) لطائف المعارف لابن رجب (ص251).
([17]) رواه مسلم (2948).
([18]) لطائف المعارف لابن رجب (ص254).